الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
* قوله: "باب بيان شيء من أنواع السحر". أي: بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها. وقد سبق أن السحر ينقسم إلى قسمين: كفر، وفسق ، فإن كان باستخدام الشياطين وما أشبه ذلك، فهو كفر. وكذلك ما ذكره هنا من أنواع السحر: منها ما هو كفر، ومنها ما هو فسق حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية. والأنواع: جمع نوع، والنوع أخص من الجنس، لأن الجنس اسم يدخل تحته أنواع، والنوع يدخل تحته أفراد، وقد يكون الجنس نوعًا باعتبار ما فوقه، والنوع جنسًا باعتبار ما تحته. فالإنسان نوع باعتبار الحيوان، والحيوان باعتبار الإنسان جنس، لأنه يدخل فيه الإنسان والإبل والبقر والغنم، والحيوان باعتبار الجسم نوع، لأن الجسم يشمل الحيوان والجماد. و"أنواع" هنا باعتبار الجنس العام. وسبق أن السحر في اللغة: كل ما كان خفي السبب دقيقًا في إدراكه حتى عد الفخر الرازي من جملة أنواع السحر الساعات، وهي في القديم عبارة عن آلات مركبة، فكيف بالساعات الإلكترونية اليوم؟ * * * قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان . إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" لهم المسند منه. قوله: "العيافة"، مصدر عاف يعيف عيافة، وهي: زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فعند العرب قواعد في هذا الأمر، لأن زجر الطير له أقسام: فتارة يزجرها للصيد، كما قال أهل العلم في باب الصيد: إن تعليم الطير بأن ينزجر إذا زجر، فهذا ليس من هذا الباب. وتارة يزجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإذا زجر الطائر وذهب شمالًا تشاءم، وإذا ذهب يمينًا تفاءل، وإن ذهب أمامًا، فلا أدري أيتوقفون أم يعيدون الزجر؟ فهذا من الجبت. قوله: "الطرق". فسره عوف: بأنه الخط يخط في الأرض، وكأنه من الطريق، من طرق الأرض يطرقها إذا سار عليها، وتخطيطها مثل المشي عليها يكون له أثر في الأرض كأثر السير عليها. ومعنى الخط بالأرض معروف عندهم، يضربون به على الرمل على سبيل السحر والكهانة، ويفعله النساء غالبًا، ولا أدري كيف يتوصلون إلى مقصودهم وما يزعمونه من علم الغيب، وأنه سيحصل كذا على ما هو معروف عندهم؟! وهذا نوع من السحر. أما خط الأرض ليكون سترة في الصلاة، أو لبيان حدودها ونحو ذلك، فليس داخلًا في الحديث. فإن قيل: قد صح عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سئل عن نبي من الأنبياء يخط، فقال: من وافق خطه، فذاك . قلنا: يجاب عنه بجوابين: الأول: أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ علقه بأمر لا يتحقق الوصول إليه، لأنه قال: فمن وافق خطه فذاك، وما يدرينا هل وافق خطه أم لا؟ الثاني: أنه إذا كان الخط بالوحي من الله تعالى كما في حال هذا النبي، فلا بأس به، لأن الله يجعل له علامة ينزل الوحي بها بخطوط يعلمه إياها. أما هذه الخطوط السحرية، فهي من الوحي الشيطاني، فإن قيل: طريقة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يسد الأبواب جميعًا خاصة في موضوع الشرك، فلماذا لم يقطع ويسد هذا الباب؟ فالجواب: كأن هذا والله أعلم أمر معلوم، وهو أن فيه نبيًا من الأنبياء يخط، فلا بد أن يجيب عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله: "من الجبت". سبق أن الجبت السحر، وعلى هذا، فتكون "من" للتبعيض على الصحيح، وليس للبيان، فالمعنى أن هذه الثلاثة: العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت. وقوله: "الطيرة" أي: من الجبت، على وزن فعلة، وهم اسم مصدر تطير، والمصدر منه تطير، وهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وقيل: التشاؤم بمعلوم مرئيًا كان أو مسموعًا، زمانًا كان أو مكانًا، وهذا أشمل، فيشمل ما لا يرى ولا يسمع، كالتطير بالزمان. وأصل التطير: التشاؤم، لكن أضيفت إلى الطير، لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، فعلقت به، وإلا، فإن تعريفها العام: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم. وكان العرب يتشاءمون بالطير وبالزمان وبالمكان وبالأشخاص، وهذا من الشرك كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم، ضاقت عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاؤم، وقال: اليوم يوم سوء، وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتر ـ والعياذ بالله ـ، وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، ويقول: أنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم بشهر شوال، ولا سيما في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم، بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقد عليها في شوال، وبنى بها في شوال، فكانت تقول: فالمهم أن التشاؤم ينبغي للإنسان أن لا يطرأ له على بال، لأنه ينكد عليه عيشه، فالواجب الاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث كان يعجبه الفأل، فينبغي للإنسان أن يتفاءل بالخير ولا يتشاءم، وكذلك بعض الناس إذا حاول الأمر مرة بعد أخرى تشاءم بأنه لن ينجح فيه فيتركه، وهذا خطأ، فكل شيء ترى فيه المصلحة، فلا تتقاعس عنه في أول محاولة، وحاول مرة بعد أخرى حتى يفتح الله عليك. وأما قول الحسن: الجبت: رنة الشيطان، قال صاحب "تيسير العزيز الحميد": لم أجد فيه كلامًا. والظاهر أن رنة الشيطان، أي: وحي الشيطان، فهذه من وحي الشيطان وإملائه، ولا شك أن الذي يتلقى أمره من وحي الشيطان أنه أتى نوعًا الكفر، وقول الحسن جاء في "تفسير ابن كثير" باللفظ الذي ذكره المؤلف، وجاء في "المسند" (5/60) بلفظ: إنه الشيطان. ووجه كون العيافة من السحر أن العيافة يستند فيها الإنسان إلى أمر لا حقيقة له: فماذا يعني كون الطائر يذهب يمينًا أو شمالًا أو أمامًا أو خلفًا؟ فهذا لا أصل له، وليس بسبب شرعي ولا حسي، فإذا اعتمد الإنسان على ذلك، فقد اعتمد على أمر خفي لا حقيقة له، وهذا سحر كما سبق تعريف السحر في اللغة. وكذلك الطرق من السحر، لأنهم يستعملونه في السحر، ويتوصلون به إليه. والطيرة كذلك، لأنها مثل العيافة تمامًا تستند إلى أمر خفي لا يصح الاعتماد عليه، وسيأتي في باب الطيرة ما يستثنى منه(1). قوله: "إسناده جيد...". قال الشيخ: إسناده جيد، وعندي أنه اقل من الجيد في الواقع، إلا أن يكون هناك متابعات، وكان بعض العلماء يذهب إلى أن الحديث إذا صح متنه، وكان موافقًا للأصول، فإنه يتساهل في سنده، والعكس بالعكس، إذا كان مخالفًا للأصول، فإنه لا يبالي بالسند، وهذا مسلك جيد بالنسبة لأخذ الحكم من الحديث، لكن بالنسبة للحكم على السند بأنه جيد بمجرد شهادة الأصول لهذا الحديث بالصحة، فهذا مشكل لأنه يلزم أنه لو جاءنا هذا السند في حديث آخر حكمنا بأنه جيد، فالأولى أن يقال: إن السند فيه ضعف، ولكن المتن، صحيح، فأنا أرى أن مثل هذا لا يحكم له بالجودة، إذ جيد أرقى من حسن، ثم الحكم بالحسن في مثل هذا السند في نفسي من شيء، لأنه ينبغي لنا أن نتحرى في الحديث عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن الذي يخفف الأمر هو صحة المتن، وأيهما أهم: السند أم المتن؟ الجواب: كلاهما مهمان، لكن المتن إذا كان صحيحًا تشهد له الأصول قد تستغني عنه بما تشهد به الأصول، أما السند، فلا بد منه، يقول ابن المبارك: لولا السند، لقال كل من شاء ما شاء. * * * وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله: "من". شرطية، وفعل الشرط: "اقتبس"، وجوابه: "فقد اقتبس". قوله: "اقتبس". أي تعلم، لأن التعلم وهو أخذ الطالب من العالم شيئًا من علمه بمنزلة الرجل يقتبس من صاحب النار شعلة. قوله: "شعبة". أي: طائفة، ومنه قوله تعالى: قوله: "من النجوم". المراد: علم النجوم، وليس المراد النجوم أنفسها، لأن النجوم لا يمكن أن تقتبس وتتعلم، والمراد به هنا علم النجوم الذي يستدل به على الحوادث الأرضية، فيستدل مثلًا باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا. ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم على أنه سيكون سعيدًا، وفي النجم الآخر على أنه سيكون شقيًا، فيستدلون باختلاف أحوال النجوم على اختلاف الحوادث الأرضية، والحوادث الأرضية من عند الله، قد تكون أسبابها معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، لكن ليس للنجوم بها علاقة، ولهذا جاء في حديث زيد بن خالد الجهني في غزوة الحديبية، قال: صلى بنا رسول الله ذات ليلة على إثر سماء من الليل، فقال: "قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا ـ بنوء يعني: بنجم، والباء للسببية، يعني: هذا المطر من النجم ـ، فإنه كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب) . فالنجوم لا تأتي بالمطر ولا تأتي بالرياح أيضًا، ومنه نأخذ خطأ العوام الذين يقولون: إذا هبت الريح طلع النجم الفلاني، لأن النجوم لا تأثير لها بالرياح، صحيح أن بعض الأوقات والفصول يكون فيها ريح ومطر، فهي ظرف لهما، وليست سببًا للريح أو المطر. * وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين: الأول: علم التأثير، وهو أن يستدل بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، فهذا محرم باطل لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الثاني: علم التسيير، وهو ما يستدل به على الجهات والأوقات، فهذا جائز، وقد يكون واجبًا أحيانًا، كما قال الفقهاء: إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم والشمس والقمر، قال تعالى: قوله: "فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد". المراد بالسحر هنا: ما هو أعم من السحر المعروف، لأن هذا من الاستدلال بالأمور الخفية التي لا حقيقة لها، كما أن السحر لا حقيقة له، فالسحر لا يقلب الأشياء، لكنه يموه، وهكذا اختلاف النجوم لا تتغير بها الأحوال. قوله: "زاد ما زاد". أي: كلما زاد شعبة من تعلم النجوم ازداد شعبة من السحر. ووجه ذلك: أن الشيء إذا كان من الشيء، فإنه يزداد بزيادته. * وجه مناسبة الحديث لترجمة المؤلف: أن من أنواع السحر: تعلم النجوم ليستدل بها على الحوادث الأرضية، وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند، لكن من حيث المعنى الصحيح تشهد له النصوص الأخرى. * * * وللنسائي من حديث أبي هريرة: قوله: "من عقد عقدة". "من" شرطية، والعقد معروف. قوله: "ثم نفث فيها". النفث: النفخ بريق خفيف، والمراد هنا النفث من أجل السحر. أما لو عقد عقدة، ثم نفث فيها من أجل أن تحتكم بالرطوبة، فليس بداخل في الحديث، والنفث من أجل السحر يفعلونه بعض الأحيان للصرف، فيصرفون به الرجل عن زوجته، ولا سيما عند عقد النكاح، فيبعد الرجل عن زوجته، فلا يقوى على جماعها، فمن عقد هذه العقدة، فقد وقع في السحر كما قال تعالى: قوله: "ومن سحر فقد أشرك". "من" هذه شرطية، وفعل الشرط: "سحر"، وجوابه: "فقد أشرك". وقوله: "فقد أشرك". هذا لا يتناول جميع السحر، إنما المراد من سحر بالطرق الشيطانية. أما من سحر بالأدوية والعقاقير وما أشبهها، فقد سبق أنه لا يكون مشركًا ، لكن الذي يسحر بواسطة طاعة الشياطين واستخدامهم فيما يريد، فهذا لا شك أنه مشرك. قوله: "ومن تعلق شيئًا وكل إليه". "تعلق شيئًا"، أي: استمسك به، واعتمد عليه. "وكل إليه"، أي: جعل هذا الشيء الذي تعلق به عمادًا له، ووكله الله إليه، وتخلى عنه. ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها: أن النافخ في العقد يريد أن يتوصل بهذا الشيء إلى حاجته ومآربه، فيوكل إلى هذا الشيء المحرم. ووجه آخر: وهو أن من الناس من إذا سحر عن طريق النفخ بالعقد ذهب إلى السحرة وتعلق بهم، ولا يذهب إلى القراء والأدوية المباحة والأدعية المشروعة، ومن توكل على الله كفاه، قال تعالى: لكن من تعلق شيئًا من المخلوقين وكل إليه، ومن وكل إلى شيء من المخلوقين وكل إلى ضعف وعجز وعورة، وقد يشمل الحديث من اعتمد على نفسه وصار معجبًا بما يقول ويفعل، فإنه يوكل إلى نفسه، ويوكل إلى ضعف وعجز وعورة، ولهذا ينبغي أن تكون دائمًا متعلقًا بالله في كل أفعالك وأحوالك حتى في أهون الأمور. ونقول للإنسان: اعتمد على نفسك بالنسبة للناس، فلا تسألهم ولا تستذل أمامهم، واستغن عنهم ما استطعت، أما بالنسبة لله، فلا تستغن عنه، بل كن دائمًا معتمدًا على ربك حتى تتيسر لك الأمور، ومن هذا النوع من يتعلقون ببعض الأحراز يعلقونها، فإنهم يوكلون إلى هذا، ولا يحصل لهم مقصودهم، لكنهم لو اعتمدوا على الله، وسلكوا السبل الشرعية، حصل لهم ما يريدون، ومن هذا النوع أيضًا من تعلق شيئًا من القبور، وجعلها ملجأه ومغيثه عند طلب الأمور، فإنه يوكل إليه، والإنسان قد يفتن ويحصل له المطلوب بدعاء هؤلاء، ولكن هذا المطلوب الذي حصل حصل عند دعائهم لا بدعائهم، والآية صريحة في ذلك، قال الله تعالى: * مناسبة الحديث: أن هؤلاء الذين يتعلقون بالسحر، ويجعلونه صناعة يصلون بها إلى مآربهم يوكلون إلى ذلك، وآخر أمرهم الخسارة والندم. * * * وعند ابن مسعود، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوله: "ألا". أداة استفتاح، والغرض تنبيه المخاطب والاعتناء بما يلقى إليه لأهميته. قوله: "هل أنبئكم ما العضة". الاستفهام للتشويق، كقوله تعالى: لأن الإنسان مشتاق إلى العلوم يحب أن يعلم، وقد يكون المراد به التنبيه، لأن الموجه إليه الخطاب ينبغي أن ينتبه ليعلم، وهي تصلح للجميع. ومعنى أنبئكم: أخبركم، وهي مرادفة للخبر في اصطلاح المحدثين، وقال بعض العلماء من ناحية اللغة لا الاصطلاح: إن الإنباء لغة يكون في الأمور الهامة، والإخبار أعم منه يكون في الهامة وغير الهامة. قوله: "العضه" على وزن الحبل والصمت والوعد، بمعنى القطع، وأما رواية العضة على وزن عدة، فإنه بمعنى التفريق، وأيًا كان، فإنها تتضمن قطعًا وتفريقًا. قوله: "هي التميمة". فعيلة بمعنى مفعولة، وهي من نم الحديث إلى غيره، أي: نقله، والنميمة فسرها بقوله: "القالة بين الناس"، أي: نقل القول بين الناس، فينقل من هذا إلى هذا، فيأتي لفلان ويقول: فلان يسبك، فهو نم إليه الحديث ونقله، وسواء كان صادقًا أو كاذبًا، فإن كان كاذبًا فهو بهت ونميمة، وإن كان صادقًا، فهو نميمة. والنميمة كما أخبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقطع الصلة، وتفرق بين الناس ، فتجد هذين الرجلين صديقين، فيأتي هذا النمام، فيقول لأحدهما: صاحبك يسبك، فتنقلب هذه المودة إلى عداوة، فيحصل التفرق، وهذا يشبه السحر بالتفرق، لأن السحر فيه تفريق، قال تعالى: والنميمة من كبائر الذنوب، وهي سبب لعذاب القبر، ومن أسباب حرمان دخول الجنة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والنميمة كما هي من كبائر الذنوب، فهي في الحقيقة خلق ذميم، ولا ينبغي للإنسان أن يطيع النمام مهما كانت حاله، قال تعالى: وهي أيضًا من أسباب فساد المجتمع، لأن هذا النمام إذا أراد أن يعتدي على كل صديقين متحابين، ويفرق بينهما بنميمته فسد المجتمع، لأن المجتمع مكون من أفراد، فإذا تفرقت صار كما قال الله ـ عز وجل ـ : وقال الآخر:
ونحن لو تأملنا النصوص الشرعية، لوجدناها تحرم كل ما يكون سببًا للتفرق والقطيعة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: * * * ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوله: "إن من البيان". "إن": حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر، و"من": يحتمل أن تكون للتبعيض، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، فعلى الأول يكون المعنى: إن بعض البيان سحر وبعضه ليس بسحر، وعلى الثاني يكون المعنى: إن جنس البيان كله سحر. قوله: "لسحرًا". اللام للتوكيد، و"سحرًا": اسم إن. والبيان: هو الفصاحة والبلاغة، وهو من نعمة الله على الإنسان، قال تعالى: والبيان نوعان: الأول: بيان لابد منه، وهذا يشترك فيه جميع الناس، فكل إنسان إذا جاع قال: إني جعت، وإذا عطش قال: إني عطشت، وهكذا. الثاني: بيان بمعنى الفصاحة التامة التي تسبي العقول وتغير الأفكار، وهي التي قال فيها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وعلى هذا التقسيم تكون "من" للتبعيض، أي: بعض البيان ـ وهو البيان الكامل الذي هو الفصاحة ـ سحر. أما إذا جعلنا البيان بمعنى الفصاحة فقط، صارت "من" لبيان الجنس. ووجه كون البيان سحرًا: أنه يأخذ بلب السامع، فيصرفه أو يعطفه، فيظن السامع أن الباطل حق لقوة تأثير المتكلم، فينصرف إليه، ولهذا إذا أتى إنسان يتكلم بكلام معناه باطل لكن لقوة فصاحته وبيانه يسحر السامع حقًا، فينصرف إليه، وإذا تكلم إنسان بليغ يحذِّر من حق، ولفصاحته وبيانه يظن السامع أن هذا الحق باطل، فينصرف عنه، وهذا من جنس السحر الذي يسمونه العطف والصرف، والبيان يحصل به عطف وصرف، فالبيان في الحقيقة بمعنى الفصاحة، ولا شك أنها تفعل فعل السحر، وابن القيم يقول عن الحور: حديثها السحر الحلال. وقوله: "إن من البيان لسحرًا"، وهل هذا على سبيل الذم، أو على سبيل المدح، أو لبيان الواقع ثم ينظر إلى أثره؟ الجواب: الأخير هو المراد، فالبيان من حيث هو بيان لا يمدح عليه ولا يذم، ولكن ينظر إلى أثره، والمقصود منه، فإن كان المقصود منه رد الحق وإثبات الباطل، فهو مذموم، لأنه استعمال لنعمة الله في معصيته، وإن كان المقصود منه إثبات الحق وإبطال الباطل، فهو ممدوح، وإذا كان البيان يستعمل في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله، فهو خير من العي، لكن إذا ابتلي الإنسان ببيان ليصد الناس عن دين الله، فهذا لا خير فيه، والعي خير منه، والبيان من حيث هو لا شك أنه نعمة، ولهذا امتن الله به على الإنسان، فقال تعالى: {علمه البيان} [الرحمن: 4]. * وجه مناسبة الحديث للباب: المؤلف كان حكيمًا في تعبيره بالترجمة، حيث قال: باب بيان شيء من أنواع السحر، ولم يحكم عليها بشيء، لأن منها ما هو شرك، ومنها ما هو من كبائر الذنوب، ومنها دون ذلك، ومنها ما هو جائز على حسب ما يقصد به وعلى حسب تأثيره وآثاره. * * * * فيه مسائل: الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. الثانية: تفسير العيافة والطرق. الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. الرابعة: العقد مع النفث من ذلك. الخامسة: أن النميمة من ذلك. السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة. قال: "فيه مسائل"، أي: في هذا الباب وما تضمنه من الأحاديث والآثار مسائل: * المسألة الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. وقد سبق تفسير هذه الثلاثة وتفسير الجبت. * الثانية: تفسير العيافة والطرق. وقد بينت في الباب أيضًا وشرحت. * الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. لقوله: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر"، وسبق الكلام عليها أيضًا. * الرابعة: العقد مع النفث من ذلك. لحديث أبي هريرة: * الخامسة: أن النميمة من ذلك. لحديث ابن مسعود: * السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة. أي: من السحر بعض الفصاحة، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: * * *
|